فصل: الحديث الرَّابِع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الرَّابِع:

عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا التقَى الختانان وَجب الْغسْل».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَالك كَمَا سَيَأْتِي، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي كَمَا سلف وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي صَحِيحه كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَيْضا من طَرِيقين آخَرين بِلَفْظ: «إِذا جَاوز» بدل «التقَى» وَكَذَا أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي جامعه ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَائِشَة حَدِيث حسن صَحِيح. وَأَصله فِي صَحِيح مُسلم بِلَفْظ: قَالَت: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان؛ فقد وَجب الْغسْل».
وَله شَاهد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِيهِ أَيْضا: أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع ثمَّ جهدها؛ فقد وَجب عَلَيْهِ الْغسْل» وَفِي رِوَايَة لَهُ «وَإِن لم ينزل» وَفِي رِوَايَة للنسائي: «وألزق الْخِتَان الْخِتَان؛ فقد وَجب الْغسْل». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أنزل أَو لم ينزل» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «إِذا التقَى الختانان، وَجب الْغسْل أنزل أَو لم ينزل».
وَلِحَدِيث عَائِشَة طَرِيق آخر، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب غرائب مَالك من حَدِيث أبي قُرَّة مُوسَى بن طَارق الزبِيدِي- بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء- وَهُوَ ثِقَة، عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي مُوسَى، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه عَن مَالك غير أبي قُرَّة.

.الحديث الخَامِس:

«أَن أم سليم جَاءَت إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن الله لَا يستحيي من الْحق! هَل عَلَى الْمَرْأَة من غسل إِذا هِيَ احْتَلَمت؟ قَالَ: نعم، إِذا رَأَتْ المَاء».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجه من حَدِيث أم سَلمَة قَالَت: جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: «يَا رَسُول الله، إِن الله لَا يستحيي من الْحق! فَهَل عَلَى الْمَرْأَة من غسل إِذا هِيَ احْتَلَمت؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: نعم، إِذا رَأَتْ المَاء. فَقَالَت أم سَلمَة: يَا رَسُول الله، وتحتلم الْمَرْأَة؟! فَقَالَ: تربت يداك، فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا؟!» هَذَا لفظ مُسلم، وَفِي لفظ لَهُ: «قلت: فضحت النِّسَاء» وَلَفظ البُخَارِيّ مثله، وَقَالَ: «إِذا رَأَتْ المَاء» وَلم يذكر لَفْظَة: «نعم» وَزَاد: «فغطت أم سَلمَة- يَعْنِي: وَجههَا- وَقَالَت: يَا رَسُول الله، وتحتلم الْمَرْأَة؟! قَالَ: نعم تربت يَمِينك؛ فَبِمَ يشبهها وَلَدهَا؟!».
خرجه فِي كتاب الْعلم، فِي بَاب الْحيَاء فِيهِ وَذكره فِي الطَّهَارَة بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء وَفِي رِوَايَة لَهُ فِي بَاب التبسم والضحك: فَضَحكت أم سَلمَة فَقَالَت: أتحتلم الْمَرْأَة؟! فَقَالَ: «فَبِمَ يشبه الْوَلَد؟!».
وَانْفَرَدَ مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من حَدِيث أنس، عَن أم سليم بِنَحْوِهِ، وَمن حَدِيث عَائِشَة «أَن امْرَأَة سَأَلت...» فَذكره.
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله حَدِيث أم سَلمَة، وَذكر الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة وَلَا يَصح. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة «أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَرْأَة تحتلم، فَقَالَ: تَجِد شَهْوَة؟ قَالَت: نعم. قَالَ: فلتغتسل». وَفِي رِوَايَة لَهُ: عَن عبد الله بن طرفَة عَن أم سَلمَة قَالَ: قَالَت أم سليم: يَا رَسُول الله، الْمَرْأَة تحتلم؟ قَالَ: «إِذا رَأَتْ المَاء الْأَصْفَر فلتغتسل».
فَائِدَة: أم سليم اسْمهَا: سهلة عَلَى أحد الْأَقْوَال، وَهِي أم أنس، وَوَقع فِي كَلَام الصيدلاني، ثمَّ إِمَام الْحَرَمَيْنِ ثمَّ الْغَزالِيّ، ثمَّ الرَّوْيَانِيّ، ثمَّ مُحَمَّد بن يَحْيَى أَنَّهَا جدته، وغلطهم ابْن الصّلاح، ثمَّ النَّوَوِيّ فِي ذَلِك، وَقد أبديت وَجهه فِي كتابي «تذكرة الأخيار بِمَا فِي الْوَسِيط من الْأَخْبَار» فسارع إِلَيْهِ.

.الحديث السَّادِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من غسل مَيتا فليغتسل».
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق كَثِيرَة، يَدُور- فِيمَا حصرنا مِنْهَا- عَلَى سِتَّة من الصَّحَابَة أبي هُرَيْرَة، وَعَائِشَة، وَعلي، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، والمغيرة رَضي اللهُ عَنهم.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فيحضرنا من طرقه ثَلَاثَة عشر طَرِيقا:
الأول: عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا: «من غسله الْغسْل، وَمن حمله الْوضُوء- يَعْنِي: الْمَيِّت». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، وَابْن مَاجَه وَلَفظه كَلَفْظِ الرَّافِعِيّ سَوَاء؛ روياه من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار، عَن سُهَيْل بِهِ.
الثَّانِي: عَن سُهَيْل أَيْضا عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمَعْنَاهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن حَامِد بن يَحْيَى، عَن سُفْيَان، عَن سُهَيْل بِهِ.
الثَّالِث: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ». رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه.
الرَّابِع: عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل الْمَيِّت فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، عَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بِهِ.
الْخَامِس: عَن زُهَيْر، عَن الْعَلَاء، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِمثل الَّذِي قبله. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه.
السَّادِس: عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه مَرْفُوعا: «من غسل جَنَازَة- يَعْنِي: مَيتا- فليغتسل، وَمن حملهَا فَليَتَوَضَّأ». رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده.
السَّابِع: عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ». رَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا.
الثَّامِن: عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن رجل يُقَال لَهُ: أَبُو إِسْحَاق، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل». رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده.
التَّاسِع: عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا مثل الَّذِي قبله. رَوَاهُ ابْن حزم فِي محلاه هَكَذَا، وَابْن الْجَوْزِيّ فِي علله من حَدِيث مُحَمَّد بن شُجَاع، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل».
الْعَاشِر: عَن أبي بَحر البكراوي، عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا بِنَحْوِ مِمَّا قبله. رَوَاهُ الْبَزَّار عَن يَحْيَى بن حَكِيم بِهِ.
الْحَادِي عشر: عَن صَفْوَان بن سليم عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل الْمَيِّت الْغسْل، وَمن حمله الْوضُوء». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَفِي رِوَايَة لَهُ: «من غسل مَيتا فليغتسل» لم يزدْ.
الثَّانِي عشر: عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ».
الثَّالِث عشر: عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، ذكر هَذَا الطَّرِيق وَالَّذِي قبله الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين الْقشيرِي فِي كتاب الإِمَام.
هَذَا مَجْمُوع مَا حصرنا من طَرِيق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، ولنذكر أَولا مقالات الْحفاظ فِيهِ، ثمَّ نبين بعد ذَلِك مَا يَقْتَضِيهِ النّظر والبحث عَلَى وَجه الْإِنْصَاف؛ فَنَقُول: ذكر الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه جَمِيع مَا عزيناه مِمَّا قدمْنَاهُ عَنهُ وَضَعفه، ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح فِيهِ أَنه مَوْقُوف عَلَى أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: الْأَشْبَه أَنه مَوْقُوف. قَالَ: وَقَالَ أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء قَالَ: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول- وَقد سُئِلَ عَن الْغسْل من غسل الْمَيِّت، فَقَالَ-: يُجزئهُ الْوضُوء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ قَالَا: لم يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، لَيْسَ بِذَاكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا مَنَعَنِي من إِيجَاب الْغسْل من غسل الْمَيِّت أَن فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف عَلَى معرفَة ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي هَذَا عَلَى مَا يَقْتَضِي؛ فَإِن وجدت مَا يقنعني أوجبته وأوجبت الْوضُوء من مس الْمَيِّت مفضيًا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُمَا فِي حَدِيث وَاحِد.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ مُحَمَّد بن يَحْيَى- يَعْنِي: الذهلي- شيخ البُخَارِيّ: لَا أعلم فِيمَن غسل مَيتا فليغتسل حَدِيثا ثَابتا وَلَو ثَبت لزمنا اسْتِعْمَاله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَالرِّوَايَات المرفوعة فِي هَذَا الْبَاب غير قَوِيَّة؛ لجَهَالَة بعض رواتها وَضعف بَعضهم، وَالصَّحِيح من قَوْله مَوْقُوفا غير مَرْفُوع.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَن رَفعه فَقَالَ: خطأ؛ لَا يرفعهُ الثِّقَات؛ إِنَّمَا هُوَ مَوْقُوف عَلَى أبي هُرَيْرَة. قَالَ: وَسَأَلته عَن الرجل- يَعْنِي: الَّذِي فِي الطَّرِيق الثَّامِن- من هُوَ، وَهل يُسمى؟ فَقَالَ: لَا.
وَنقل أَصْحَابنَا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ فِي الْبُوَيْطِيّ: إِن صَحَّ الحَدِيث قلت بِوُجُوبِهِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: هَذَا حَدِيث يرويهِ ابْن أبي ذِئْب، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، وَاخْتلف عَنهُ، فَرَوَاهُ حبَان بن عَلّي، عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ. وَخَالفهُ يَحْيَى الْقطَّان وَيَحْيَى بن أَيُّوب والدراوردي وحجاج بن مُحَمَّد وَعبد الصَّمد بن النُّعْمَان وَابْن أبي فديك، رَوَوْهُ عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن صَالح مولَى التوءمة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَأغْرب ابْن أبي فديك فِيهِ بِإِسْنَادَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة.
قَالَ: وَحَدِيث المَقْبُري أصح.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي آخر الْجَنَائِز: هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِيهِ عَلَى مُحَمَّد بن عَمْرو وَهُوَ مرفوض.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الْمَحْفُوظ فِي الطَّرِيق الأول وَقفه عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي صَالح مولَى التوءمة، قَالَ مَالك: لَيْسَ بِثِقَة. وَكَانَ شُعْبَة ينْهَى أَن يُؤْخَذ عَنهُ، وَلَا يروي عَنهُ وَفِي الثَّالِث- وَهُوَ فِيمَا قدمْنَاهُ التَّاسِع- مُحَمَّد بن عَمْرو، قَالَ يَحْيَى: مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه. وَفِي الرَّابِع- وَهُوَ فِيمَا قدمْنَاهُ الثَّامِن- رجل مَجْهُول، قَالَ: وَقد رَوَاهُ ابْن لَهِيعَة من حَدِيث صَفْوَان عَن أبي سَلمَة، وَابْن لَهِيعَة لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي شرح مُسْند الشَّافِعِي: عُلَمَاء الحَدِيث لم يصححوا فِي هَذَا الْبَاب شَيْئا مَرْفُوعا وصححوه عَن أبي هُرَيْرَة مَوْقُوفا، وَقَالَ فِي هَذَا الْكتاب أَعنِي شرح الْوَجِيز: والْحَدِيث إِن ثَبت مَحْمُول عَلَى الِاسْتِحْبَاب. وَنقل النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور تَضْعِيف هَذَا الحَدِيث، وَأنكر عَلَى التِّرْمِذِيّ تحسينه.
هَذَا مَا حَضَرنَا من كَلَام الْحفاظ قَدِيما وحديثًا عَلَيْهِ، وَحَاصِله تَضْعِيف رَفعه وَتَصْحِيح وَقفه، ولابد من النّظر فِي ذَلِك عَلَى سَبِيل التَّفْصِيل دون الِاكْتِفَاء بالتقليد، وَقد قَامَ بذلك صَاحب الإِمام وَحَاصِل مَا يعتل بِهِ فِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: من جِهَة رجال الْإِسْنَاد، فَأَما رِوَايَة صَالح مولَى التوءمة- وَهِي الطَّرِيق الثَّالِث- فقد سلف قَول مَالك وَشعْبَة فِيهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: اخْتَلَط فِي آخر عمره، فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَأما رِوَايَة عَمْرو بن عُمَيْر- وَهِي الطَّرِيق الرَّابِع- فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِيهِ: إِنَّمَا يعرف بِهَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ بالمشهور. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِنَّه مَجْهُول الْحَال لَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَهَذَا الحَدِيث من غير مزِيد ذكره ابْن أبي حَاتِم. قَالَ ابْن الْقطَّان: وَهَذَا عِلّة الْخَبَر.
وَأما زُهَيْر الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الْخَامِس فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: رَوَى عَنهُ أهل الشَّام أَحَادِيث مَنَاكِير. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما حَدِيث الْعَلَاء- وَهُوَ السَّادِس- فَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَيْسَ بِمَعْرُوف.
وَأما السَّابِع: فَفِي إِسْنَاده أَبُو وَاقد واسْمه: صَالح بن مُحَمَّد بن زَائِدَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِذَاكَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَجَمَاعَة: ضَعِيف. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث.
وَأما الثَّامِن: فَفِيهِ أَبُو إِسْحَاق، وَهُوَ مَجْهُول، كَمَا سلف عَن أبي حَاتِم الرَّازِيّ.
وَأما التَّاسِع: فمحمد بن عَمْرو قَالَ يَحْيَى: مَا زَالَ النَّاس يَتَّقُونَ حَدِيثه.
وَأما الْعَاشِر: فالبكراوي، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان، طرح النَّاس حَدِيثه، كَمَا قَالَه أَحْمد، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: ذهب حَدِيثه.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ يَحْيَى وَالنَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي المقلوبات عَن الْأَثْبَات، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَأما الْحَادِي عشر: فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: فِي إِسْنَاده ابْن لَهِيعَة وحنين بن أبي حَكِيم، وَلَا يحْتَج بهما.
الْوَجْه الثَّانِي: التَّعْلِيل؛ فَأَما رِوَايَة سُهَيْل فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّه رُوِيَ مَوْقُوفا. وَأَيْضًا؛ فقد رَوَاهُ سُفْيَان، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، عَن أبي هُرَيْرَة- كَمَا سلف- فَأدْخل رجلا بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة، وَهَذَا اخْتِلَاف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: وَإِنَّمَا لم يقو عِنْدِي أَنه يرْوَى عَن سُهَيْل بن أبي صَالح، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة، وَيدخل بعض الْحفاظ بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة «إِسْحَاق مولَى زَائِدَة». قَالَ: فَيدل عَلَى أَن أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَت معرفتي بِإسْحَاق مولَى زَائِدَة مثل معرفتي بِأبي صَالح، وَلَعَلَّه أَن يكون ثِقَة.
وَأما رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب؛ فقد أسلفنا روايتنا لَهُ عَن صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، وَعَن الْقَاسِم بن عَبَّاس، عَن عَمْرو بن عُمَيْر، عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عقب رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب: وَصَالح مولَى التوءمة لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو فقد رَوَاهَا عبد الْوَهَّاب عَنهُ مَوْقُوفَة عَلَى أبي هُرَيْرَة، وَرجحه بَعضهم عَلَى الرّفْع. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيّ. وَرَوَاهُ مُعْتَمر أَيْضا عَن مُحَمَّد فَوَقفهُ، وَقد أسلفنا عَن أبي حَاتِم أَن الرّفْع خطأ. ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن ذَلِك فَقَالَ: لقَائِل أَن يَقُول: أما الْكَلَام عَلَى صَالح مولَى التوءمة فَهُوَ وَإِن كَانَ مَالك قَالَ فِيهِ: إِنَّه لَيْسَ بِثِقَة- كَمَا قدمْنَاهُ- واستضعفه غَيره فقد قَالَ يَحْيَى فِيهِ: إِنَّه ثِقَة حجَّة. قيل لَهُ: إِن مَالِكًا ترك السماع مِنْهُ! فَقَالَ: إِن مَالِكًا إِنَّمَا أدْركهُ بعد أَن خرف، وَلَكِن ابْن أبي ذِئْب سمع مِنْهُ قبل أَن يخرف.
وَقَالَ السَّعْدِيّ: تغير جدًّا، وَحَدِيث ابْن أبي ذِئْب مَقْبُول مِنْهُ لقدم سَمَاعه. قَالَ الشَّيْخ: فَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَلَام مَالك فِيهِ بعد تغيره وَأَن رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب قديمَة مَقْبُولَة، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَنهُ. قَالَ: وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْبَيْهَقِيّ فِيهِ «إِنَّه اخْتَلَط فِي آخر عمره؛ فَخرج عَن حد الِاحْتِجَاج بِهِ» لِأَنَّهُ قد تبين بِشَهَادَة من تقدم بقدم سَماع ابْن أبي ذِئْب وَأَنه مَقْبُول.
قلت: وَبِه يُجَاب أَيْضا عَن إعلال ابْن الْجَوْزِيّ الحَدِيث بِهِ كَمَا أسلفناه عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ: وَأما رِوَايَة سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة فسندها عِنْد التِّرْمِذِيّ من شَرط الصَّحِيح، وَقَالَ فِيهَا التِّرْمِذِيّ: إِنَّه حَدِيث حسن، وَعبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار وَأَبُو صَالح مُتَّفق عَلَيْهِمَا، وَمُحَمّد بن عبد الْملك وسُهَيْل أخرج لَهما مُسلم. وَقَالَ الشَّيْخ فِي الْإِلْمَام أَيْضا: رِجَاله رجال مُسلم. وَقد أخرجهَا ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سُهَيْل، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَفِي هَذِه الرِّوَايَة فَائِدَة أُخْرَى؛ وَهِي مُتَابعَة حمادٍ عبدَ الْعَزِيز.
وَأما رِوَايَة سُفْيَان وَإِدْخَال إِسْحَاق بَين أبي صَالح وَأبي هُرَيْرَة، فَكَمَا قَالَ الشَّافِعِي يدل عَلَى أَن أَبَا صَالح لم يسمعهُ من أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن إِسْحَاق مولَى زَائِدَة موثق أخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَإِذا كَانَ ثِقَة، فكيفما كَانَ الحَدِيث عَنهُ أَو عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، لم يخرج عَن ثِقَة.
قلت: وَقَول الشَّافِعِي السالف إِن فِي إِسْنَاده رجلا لم أَقف عَلَى معرفَة ثَبت حَدِيثه إِلَى يومي عَلَى مَا يقنعني. الظَّاهِر أَنه أَرَادَ إِسْحَاق هَذَا وَقد وضح لَك ثقته، وَقد قَالَ فِيهِ مرّة أُخْرَى: لَعَلَّه أَن يكون ثِقَة. كَمَا أسلفناه عَنهُ.
وَأما طَرِيق أبي دَاوُد الَّذِي زيد فِيهِ «إِسْحَاق» فَلَا أرَى لَهُ عِلّة لصِحَّة إِسْنَاده واتصاله. حَامِد بن يَحْيَى الْمَذْكُور فِي أول إِسْنَاده مَشْهُور، قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَذكر جَعْفَر الْفرْيَابِيّ أَنه سَأَلَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ عَنهُ فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ الله، أُبْقِي حَامِد إلىأن يحْتَاج يسْأَل عَنهُ؟! وَذكره ابْن حبَان فِي ثقاته وَقَالَ: كَانَ أعلم زَمَانه وَمن بعده مخرج لَهُ فِي الصَّحِيح. وَقد جنح ابْن حزم الظَّاهِرِيّ إِلَى تَصْحِيحه فَإِنَّهُ احْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة وَقَالَ: إِسْحَاق مولَى زَائِدَة ثِقَة مدنِي، وَثَّقَهُ أَحْمد بن صَالح الْكُوفِي وَغَيره.
وَأما زُهَيْر فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَبَاقِي الْكتب السِّتَّة. وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَقَالَ أَحْمد: مقارب الحَدِيث. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: جَائِز الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق، فِي حفظه سوء وَقَالَ: حَدِيثه بِالشَّام، أنكر من حَدِيثه بالعراق لسوء حفظه، وَمَا حدث بِهِ من حفظه فَهُوَ أغاليط.
قلت: وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أهل الشَّام عَنهُ الَّتِي قَالَ البُخَارِيّ فِيهَا مَا سلف، لَكِن رَوَى البُخَارِيّ أَيْضا عَن أَحْمد أَنه قَالَ: كأنَّ زهيرًا الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام زُهَيْر آخر.
وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو فقد احْتج بهَا ابْن حزم حَيْثُ رَوَاهَا من جِهَة حَمَّاد بن سَلمَة، وَمُحَمّد بن عَمْرو رَوَى عَنهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وتابع بِهِ مُسلم، وَقد رفع هَذَا الحَدِيث حَمَّاد، وَتَابعه أَبُو بَحر وَفِي قَول أبي حَاتِم: يكْتب حَدِيثه. مَا يَقْتَضِي أَن يَجْعَل تَأْكِيدًا فِي رَفعه، وَرِوَايَة الْوَقْف لم يَعْتَبِرهَا ابْن حزم تَقْدِيمًا للرفع عَلَيْهَا، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: كَانَ يَحْيَى بن سعيد حسن الرَّأْي فِي أبي بَحر.
وَأما ابْن لَهِيعَة فقد سلفت تَرْجَمته فِيمَا مَضَى، وَأما حنين بن أبي حَكِيم فقد وَثَّقَهُ ابْن حبَان.
وَأما الِاخْتِلَاف عَلَى ابْن أبي ذِئْب فقد يُقَال: إنَّهُمَا إسنادان مُخْتَلِفَانِ لِابْنِ أبي ذِئْب لَا يُعلل أَحدهمَا بِالْآخرِ؛ لاخْتِلَاف رجالهما.
وَأما قَول ابْن الْقطَّان فِي حَدِيث الْعَلَاء: إِنَّه لَيْسَ بِمَعْرُوف. إِن أَرَادَ أَنه لَا يعرف مخرجه فَلَيْسَ كَذَلِك، فقد خرجه الْبَزَّار كَمَا أسلفناه، وَإِن أَرَادَ مَعَ معرفَة طَرِيقه أَنه غير مَشْهُور؛ فَلَا يُنَاسِبه ذَلِك، وَإِنَّمَا يُنَاسِبه النّظر فِي رجال إِسْنَاده.
وَأما أَبُو وَاقد فقد قَالَ أَحْمد فِيهِ: مَا أرَى بِهِ بَأْسا. فَلَعَلَّ ذَلِك يَقْتَضِي أَن يُتَابع بروايته، وَأما جَهَالَة بعض رُوَاته فَلَا يقْدَح فِيمَا صَحَّ مِنْهُمَا؛ فقد ظهر صِحَة بعض طرقه وَحسن بَعْضهَا ومتابعة الْبَاقِي لَهَا، فَلَا يخْفَى إِذا مَا فِي إِطْلَاق الضعْف عَلَيْهَا، وَإِن الْأَصَح الْوَقْف، وَقد علم أَيْضا مَا يعْمل عِنْد اجْتِمَاع الرّفْع وَالْوَقْف وشهرة الْخلاف فِيهِ، وَقد نقل الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي حاويه عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَنه خرج لصِحَّة هَذَا الحَدِيث مائَة وَعشْرين طَرِيقا، فَأَقل أَحْوَاله إِذا أَن يكون حسنا.
تَنْبِيه: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ أورد هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ «الْمس» دون «الْحمل» فَقَالَ: رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من غسل مَيتا فليغتسل، وَمن مَسّه فَليَتَوَضَّأ». وَلم أَقف عَلَى لفظ «الْمس» فِي رِوَايَة بعد الفحص عَنهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِلَفْظ «الْحمل» بدله، وَكَذَا أوردهُ هُوَ- أَعنِي: الرَّافِعِيّ- فِي كِتَابه الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة نعم كَلَام الشَّافِعِي السالف دَال عَلَى وُرُوده فِيهِ؛ إِذْ قَالَ: فَإِن وجدت مَا يقنعني أوجبته وأوجبت الْوضُوء من مس الْمَيِّت؛ فَإِنَّهُمَا فِي حَدِيث وَاحِد. وَكَذَا قَول الْمُزنِيّ أَيْضا: الْغسْل من غسل الْمَيِّت غير مَشْرُوع، وَكَذَا الْوضُوء من مس الْمَيِّت وَحمله؛ لِأَنَّهُ لم يَصح فِيهَا شَيْء دَال عَلَى ذَلِك.
وَقد آن لنا أَن نعود إِلَى الْكَلَام عَلَى بَقِيَّة الْأَحَادِيث؛ فَنَقُول: وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث مُصعب بن شيبَة، عَن طلق بن حبيب، عَن عبد الله بن الزبير، عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أَنَّهَا حدثته «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل من أَربع: من الْجَنَابَة، وَيَوْم الْجُمُعَة وَمن الْحجامَة، وَمن غسل الْمَيِّت». وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: «الْغسْل من أَرْبَعَة من الْجَنَابَة، وَالْجُمُعَة، والحجامة، وَغسل الْمَيِّت» وَفِي رِوَايَة لَهُ: «الْغسْل من خَمْسَة: من الْجَنَابَة، والحجامة، وَغسل يَوْم الْجُمُعَة، وَالْمَيِّت، وَمن مَاء الْحمام».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ «كَانَ يغْتَسل»، «يُغتَسل» «الغُسل» وَأعله الْأَثْرَم بعلل:
أَحدهَا: أَنه سمع أَبَا عبد الله- يَعْنِي: أَحْمد بن حَنْبَل- يتَكَلَّم فِي مُصعب بن شيبَة، وَذكر أَن لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير قَالَ: وسمعته يتَكَلَّم عَلَى هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه.
ثَانِيهَا: أَن عَائِشَة كَانَت ترخص فِي غسل الْجُمُعَة؛ فَكيف تذكر أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِهِ؟!
ثَالِثهَا: أَنه صَحَّ عَنْهَا إِنْكَار الْغسْل من غسل الْمَيِّت، فَكيف ترويه عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وتنكر عَلَى من فعله.
رَابِعهَا: أَن فِيهِ الْغسْل من الْحجامَة، وَهُوَ مُنكر عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لإِجْمَاع الْأمة عَلَى أَنه لَا يجب، زَاد ابْن الْجَوْزِيّ فِي ناسخه ومنسوخه: وَلَا يسْتَحبّ إِجْمَاعًا. وَقَالَ فِي علله- أَعنِي ابْن الْجَوْزِيّ-: هَذَا حَدِيث لَا يَصح. ثمَّ ذكر عَن أَحْمد أَنه قَالَ فِي مُصعب بن شيبَة: أَحَادِيثه مَنَاكِير. قَالَ: وَلَا يثبت فِي هَذَا حَدِيث.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي إِسْنَاده مقَال. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أَبَا زرْعَة عَن الْغسْل من الْحجامَة فَقلت: يرْوَى مَرْفُوعا «الْغسْل من أَربع...» فَقَالَ: لَا يَصح هَذَا، رَوَاهُ مُصعب بن شيبَة، وَلَيْسَ بِقَوي. فَقلت لَهُ: لم يرو عَن عَائِشَة من غير حَدِيث مُصعب؟ قَالَ: لَا. وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة تَضْعِيفه عَن أَحْمد أَيْضا، وَعَن التِّرْمِذِيّ أَنه نقل عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ فِي سنَنه: مَا أرَى مُسلما تَركه إِلَّا لطعن بعض الْحفاظ فِيهِ. وَجزم بضعفه من الْمُتَأَخِّرين: النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف.
وَالْجَوَاب عَن الْعلَّة الأولَى أَن مُصعب بن شيبَة أخرج لَهُ مُسلم فِي صَحِيحه محتجًّا بِهِ، وَكَذَا بَاقِي السّنَن الْأَرْبَعَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: رُوَاة هَذَا الحَدِيث كلهم ثِقَات؛ فَإِن طلق بن حبيب وَمصْعَب بن شيبَة قد أخرج مُسلم بن الْحجَّاج وَجَمَاعَة حَدِيثهمَا فِي الصَّحِيح، وَرُوِيَ عَن أبي كريب، عَن يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن أَبِيه بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه حَدِيث «عشر من الْفطْرَة» وَسَائِر رُوَاته مُتَّفق عَلَيْهِم. قَالَ: وَشَاهده حَدِيث أبي هُرَيْرَة... فَذكره من حَدِيث إِسْحَاق مولَى زَائِدَة، وَعَمْرو بن عُمَيْر عَنهُ. وَقَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم. وَجزم الْمجد فِي أَحْكَامه بِأَنَّهُ عَلَى شَرط مُسلم، وَكَذَا الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي اقتراحه أَي: لِأَن مصعبًا وطلقًا انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُمَا مُسلم، وَرَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن عَبدة عَن عبد الله الْخُزَاعِيّ، عَن مُحَمَّد بن بشر، عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن مُصعب بِهِ.
وَأما مَا ذكره بعد ذَلِك من الْعِلَل فَفِيهِ مَا لَيْسَ من صناعَة الْإِسْنَاد، كَمَا نبه عَلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، وَنَقله الْإِجْمَاع عَلَى عدم الْوُجُوب لَا يَقْتَضِي تَضْعِيف الحَدِيث لجَوَاز أَن يحمل عَلَى الِاسْتِحْبَاب، وَأما نقل ابْن الْجَوْزِيّ الْإِجْمَاع عَلَى أَنه لَا يسْتَحبّ الْغسْل من الْحجامَة فَلَيْسَ كَمَا قَالَ؛ فَإِن الشَّافِعِي نَص عَلَى اسْتِحْبَابه؛ كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب عَن نَصه فِي الْقَدِيم، وَعَن حِكَايَة الْقفال عَن النَّص وَهَذَا نَص قديم لَا معَارض لَهُ فِي الْجَدِيد؛ فَيكون مذْهبه.
وَأما حَدِيث عَلّي فَسَيَأْتِي فِي الْجَنَائِز حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ.
وَأما حَدِيث أبي سعيد فَرَوَاهُ حَرْمَلَة بن يَحْيَى، عَن ابْن وهب، عَن أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْغسْل من الْغسْل، وَالْوُضُوء من الْحمل». وَأُسَامَة هَذَا صَدُوق فِيهِ لين يسير وَقد أخرج لَهُ م 4.
وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ معمر، عَن أبي إِسْحَاق، عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا: «من غسل مَيتا فليغتسل» ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي علله وَقَالَ: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: حَدِيث غلط. وَلم يبين غلطه، وَسُئِلَ عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِي علله: إِنَّه لَا يثبت. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: إِسْنَاده سَاقِط. وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله وناسخه ومنسوخه وَقَالَ فِي علله: لَا يَصح. قَالَ: وَأَبُو إِسْحَاق تغير بِأخرَة، وَأَبوهُ لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي النَّقْل.
وَأما حَدِيث الْمُغيرَة، فَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده فَقَالَ: ثَنَا يَعْقُوب، ثَنَا أبي، عَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: وَقد كنت حفظت من كثير من عُلَمَائِنَا بِالْمَدِينَةِ أَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم كَانَ يروي عَن ابْن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَحَادِيث مِنْهَا أَنه حَدثهُ أَبوهُ أَنه سمع رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «من غسل مَيتا فليغتسل».
خَاتِمَة: لما ذكر أَبُو دَاوُد حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِنَّه مَنْسُوخ. وَقَالَ مثله أَبُو حَفْص بن شاهين قَالَ: وناسخه حَدِيث ابْن عَبَّاس: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي ميتكم غسل إِذا غسلتموه، وحسبكم أَن تغسلوا أَيْدِيكُم»
وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَى هَذَا الحَدِيث فِي بَاب الْجُمُعَة حَيْثُ ذكره الرَّافِعِيّ- إِن شَاءَ الله- وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك ابْن الْجَوْزِيّ فِي ناسخه ومنسوخه الْمُسَمَّى ب الْإِعْلَام فَذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف، وَكَذَا حَدِيث عَائِشَة وَحَدِيثه، ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «لَيْسَ عَلَيْكُم فِي ميتكم غسل إِذا غسلتموه إِن ميتكم لَيْسَ بِنَجس» وَرَوَاهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي أرَاهُ أَن أَحَادِيث الْغسْل من غسل الْمَيِّت لَا تثبت، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: «وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» وَذَلِكَ مَتْرُوك بِالْإِجْمَاع؛ فَكَذَلِك الْغسْل. قَالَ: وَكَذَلِكَ من الْحجامَة مُنكر؛ فَإِنَّهُ لَا يجب وَلَا يسْتَحبّ إِجْمَاعًا، وَقد أسلفت لَك مَا فِي هَذَا، وَأول غَيره قَوْله: «وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ» عَلَى: من أَرَادَ حمله ومتابعته فَليَتَوَضَّأ من أجل الصَّلَاة عَلَيْهِ. ذكره الْحَاكِم فِي تَارِيخه عَن أبي بكر الضبعِي حَيْثُ قَالَ: سمعته. وَقد سُئِلَ عَنهُ، فَقَالَ: إِن صَحَّ هَذَا الْخَبَر فَمَعْنَاه أَن يتَوَضَّأ قبل حمله شَفَقَة أَن تفوته الصَّلَاة بعد الْحمل، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «من رَاح إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل» أَي: قبل الرواح. وَلما ذكر أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قَالَ: أُضمر فِي الْخَبَر قَوْله: إِذا لم يكن بَينهمَا حَائِل.
فَائِدَة: ذكر الشَّيْخ أَبُو عَلّي السنجي فِي شرح التَّلْخِيص فِي بَاب الْجُمُعَة أَن أَصْحَابنَا اخْتلفُوا فِي قَوْله: «وَمن مَسّه فَليَتَوَضَّأ» عَلَى وُجُوه مِنْهَا أَنه عَلَى ظَاهره وَيجْعَل الْوضُوء وَاجِبا عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَن بدنه بِالْمَوْتِ صَار عَورَة وَقيل: إِن النّظر إِلَى بدنه حرَام إِلَّا لضَرُورَة فَصَارَ كبدن الْمَرْأَة كَذَا ذكره، وَهُوَ غَرِيب، وَجزم ابْن يُونُس أَيْضا فِي شرح التَّعْجِيز بِأَن بدنه عَورَة، وَيحرم النّظر إِلَى جَمِيع بدنه، وَلَا أعلم من ذكر ذَلِك غَيرهمَا.